فصل: تفسير الآيات رقم (35- 36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ خافت منه هيبة ‏{‏والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ من المحن والمصائب ‏{‏والمقيمي الصلاة‏}‏ في أوقاتها ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ يتصدقون‏.‏

‏{‏والبدن‏}‏ جمع بدنة سميت لعظم بدنها وفي الشريعة يتناول الإبل والبقر، وقرئ برفعها وهو كقوله ‏{‏والقمر قدرناه‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 39‏]‏ ‏{‏جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله‏}‏ أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله، وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها و‏{‏من شعائر الله‏}‏ ثاني مفعولي ‏{‏جعلنا‏}‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ‏}‏ النفع في الدنيا والأجر في العقبى ‏{‏فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ عند نحرها ‏{‏صَوَافَّ‏}‏ حال من الهاء أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ‏{‏فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا‏}‏ وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها وسكنت حركتها ‏{‏فَكُلُواْ مِنْهَا‏}‏ إن شئتم ‏{‏وَأَطْعِمُواْ القانع‏}‏ السائل من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته قنوعاً ‏{‏والمعتر‏}‏ الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل‏.‏ وقيل‏:‏ القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال من قنعت قنعاً وقناعة، والمعتر المتعرض للسؤال ‏{‏كذلك سخرناها لَكُمْ‏}‏ أي كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم، أو هو كقوله ‏{‏ذلك ومن يعظم‏}‏ ثم استأنف فقال ‏{‏سخرناها لكم‏}‏ أي ذللناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ لكي تشكروا إنعام الله عليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ‏}‏ أي لن يتقبل الله اللحوم والدماء ولكن يتقبل التقوى، أو لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المراقة بالنحر والمراد أصحاب اللحوم والدماء، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى‏.‏ وقيل‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت ‏{‏كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ‏}‏ أي البدن ‏{‏لِتُكَبّرُواْ الله‏}‏ لتسموا الله عند الذبح أو لتعظموا الله ‏{‏على مَا هَدَاكُمْ‏}‏ على ما أرشدكم إليه ‏{‏وَبَشّرِ المحسنين‏}‏ الممتثلين أوامره بالثواب ‏{‏إِنَّ الله يُدَافِعُ‏}‏ ‏{‏يدفع‏}‏ مكي وبصري وغيرهما يدافع أي يبالغ في الدفع عنهم ‏{‏عَنِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ونحوه ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ثم علل ذلك بقوله ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ‏}‏ في أمانة الله ‏{‏كَفُورٌ‏}‏ لنعمة الله أي لأنه لا يحب أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها‏.‏

‏{‏أُذِنَ‏}‏ مدني وبصري وعاصم ‏{‏لِلَّذِينَ يقاتلون‏}‏ بفتح التاء مدني وشامي وحفص، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه ‏{‏بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ‏}‏ بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم‏:‏ اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية ‏{‏وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ‏}‏ على نصر المؤمنين ‏{‏لَقَدِيرٌ‏}‏ قادر وهو بشارة للمؤمنين بالنصرة وهو مثل قوله ‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ في محل جر بدل من ‏{‏الذين‏}‏ أو نصب ب «أعني» أو رفع بإضمارهم ‏{‏أُخْرِجُواْ مِن ديارهم‏}‏ بمكة ‏{‏بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب التمكين لا موجب الإخراج ومثله ‏{‏هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 59‏]‏ ومحل أن يقولوا جر بدل من ‏{‏حق‏}‏ والمعنى ما أخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله‏}‏ ‏{‏دفاع‏}‏ مدني ويعقوب ‏{‏الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ‏}‏ وبالتخفيف حجازي ‏{‏صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد‏}‏ أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات أي كنائس‏.‏ وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ولا للمسلمين مساجد، أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين، وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجوداً أو لقربها من التهديم ‏{‏يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً‏}‏ في المساجد أو في جميع ما تقدم ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ‏}‏ أي ينصر دينه وأوليائه ‏{‏إِنَّ الله لَقَوِيٌّ‏}‏ على نصر أوليائه ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ على انتقام أعدائه‏.‏

‏{‏الذين‏}‏ محله نصب بدل من ‏{‏من ينصره‏}‏ أو جر تابع ل ‏{‏الذين أخرجوا‏}‏ ‏{‏إِنْ مكناهم فِى الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر‏}‏ هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا وكيف يقومون بأمر الدين، وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله عز وجل أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة‏.‏ وعن الحسن‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَلِلَّهِ عاقبة الأمور‏}‏ أي مرجعها إلى حكمه وتقديره، وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ‏(‏42‏)‏ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ‏(‏43‏)‏ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏44‏)‏ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يُكَذّبُوكَ‏}‏ هذه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم من تكذيب أهل مكة إياه أي لست بأوحدي في التكذيب ‏{‏فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ‏}‏ قبل قومك ‏{‏قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ نوحاً ‏{‏وَعَادٌ‏}‏ هوداً ‏{‏وَثَمُودُ‏}‏ صالحاً ‏{‏وَقَوْمِ إبراهيم‏}‏ إبراهيم ‏{‏وَقَوْمُ لُوطٍ‏}‏ لوطاً ‏{‏وأصحاب مَدْيَنَ‏}‏ شعيباً ‏{‏وَكُذّبَ موسى‏}‏ كذبه فرعون والقبط ولم يقل وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه، أو كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وظهور معجزاته فما ظنك بغيره‏!‏ ‏{‏فَأمْلَيْتُ للكافرين‏}‏ أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ‏}‏ عاقبتهم على كفرهم ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقماً وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً‏.‏ ‏{‏نكيري‏}‏ بالياء في الوصل والوقف‏:‏ يعقوب ‏{‏فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها‏}‏ ‏{‏أهلكتها‏}‏ بصري ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ حال أي وأهلها مشركون ‏{‏فَهِىَ خَاوِيَةٌ‏}‏ ساقطة من خوى النجم إذا سقط ‏{‏على عُرُوشِهَا‏}‏ يتعلق ب ‏{‏خاوية‏}‏ والمعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، ولا محل ل ‏{‏فهي خاوية‏}‏ من الإعراب لأنها معطوفة على ‏{‏أهلكناها‏}‏ وهذا الفعل ليس له محل، وهذا إذا جعلنا ‏{‏كأين‏}‏ منصوب المحل على تقدير كثيراً من القرى أهلكناها ‏{‏وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ‏}‏ أي متروكة لفقد دلوها ورشائها وفقد تفقدها، أو هي عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها ‏{‏وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏}‏ مجصص من الشيد الجص أو مرفوع البنيان من شاد البناء رفعه، والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطلناها عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعاً فخلت القصور عن أربابها والآبار عن واردها والأظهر أن البئر والقصر على العموم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ‏(‏46‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏47‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض‏}‏ هذا حث على السفر ليروا مصارع من أهلهم بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا ‏{‏فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي ‏{‏فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور‏}‏ الضمير في ‏{‏فإنها‏}‏ ضمير القصة أو ضمير مبهم يفسره ‏{‏الأبصار‏}‏ أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار‏.‏ ولكل إنسان أربع أعين‏:‏ عينان في رأسه وعينان في قلبه، فإذا أبصر ما في القلب وعمي ما في الرأس لم يضره، وإن أبصر ما في الرأس وعمي ما في القلب لم ينفعه، وذكر الصدور لبيان أن محل العلم القلب ولئلا يقال‏:‏ إن القلب يعني به غير هذا العضو كما يقال «القلب لب كل شيء»‏.‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ الآجل استهزاء ‏{‏وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ‏}‏ كأنه قال‏:‏ ولم يستعجلونك به كأنهم يجوزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ولن يخلف الله وعده وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين ‏{‏وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ ‏{‏يعدون‏}‏ مكي وكوفي غير عاصم أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدائد طوال‏.‏

‏{‏وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظالمة‏}‏ أي وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهَا‏}‏ بالعذاب ‏{‏وَإِلَيَّ المصير‏}‏ أي المرجع إلي فلا يفوتني شيء‏.‏ وإنما كانت الأولى أي ‏{‏فكأين‏}‏ معطوفة بالفاء وهذه أي ‏{‏وكأين‏}‏ بالواو لأن الأولى وقعت بدلاً عن ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو وهما ‏{‏وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 52‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏49‏)‏ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏50‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏51‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ وإنما لم يقل بشير ونذير لذكر الفريقين بعده لأن الحديث مسوق إلى المشركين و‏{‏يا أيها الناس‏}‏ نداء لهم وهم الذين قيل فيهم ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ ووصفوا بالاستعجال‏.‏ وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا، أو تقديره نذير مبين وبشير فبشر أولاً فقال ‏{‏فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي حسن‏.‏ ثم أنذر فقال ‏{‏والذين سَعَوْاْ‏}‏ سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه ‏{‏في ءاياتنا‏}‏ أي القرآن ‏{‏معاجزين‏}‏ حال ‏{‏معجزين‏}‏ حيث كان‏:‏ مكي وأبو عمرو‏.‏ وعاجزه سابقه كأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه‏.‏ والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لها ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ أي النار الموقدة‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ‏}‏ «من» لابتداء الغاية ‏{‏مِن رَّسُولٍ‏}‏ «من» زائدة لتأكيد النفي ‏{‏وَلاَ نَبِيّ‏}‏ هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد‏.‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال ‏"‏ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ‏"‏ فقيل‏:‏ فكم الرسل منهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ ثلثمائة وثلاثة عشر ‏"‏ والفرق بينهما أن الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله‏.‏ وقيل‏:‏ الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره ‏{‏إِلاَّ إِذَا تمنى‏}‏ قرأ، قال

تمنى كتاب الله أول ليلة *** تمنى داود الزبور على رسل

‏{‏أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ‏}‏ تلاوته‏.‏ قالوا‏:‏ إنه عليه السلام كان في نادي قومه يقرأ «والنجم» فلما بلغ قوله ‏{‏ومناة الثلاثة الأخرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 20‏]‏ جرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه‏.‏ وقيل‏:‏ نبهه جبريل عليه السلام فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان‏.‏ وهذا القول غير مرضي لأنه لا يخلوا إما أن يتكلم النبي عليه السلام بها عمداً وإنه لا يجوز لأنه كفر ولأنه بعث طاعناً للأصنام لا مادحاً لها، أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي عليه السلام جبراً بحيث لا يقدر على الامتناع منه وهو ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏ ففي حقه أولى، أو جرى ذلك على لسانه سهواً وغفلة وهو مردود أيضاً لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله، ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه

‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحدٍ وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله ‏{‏ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السلام وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويسمع كلامه، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل وقال يوم بدر‏:‏ ‏{‏لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏

‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان‏}‏ أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان ‏{‏ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته‏}‏ أي يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يدعه حتى يكشفه ويزيله‏.‏ ثم ذكر أن ذلك ليفتن الله تعالى به قوماً بقوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 57‏]‏

‏{‏لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏54‏)‏ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ‏(‏55‏)‏ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً‏}‏ محنة وابتلاء ‏{‏لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ شك ونفاق ‏{‏والقاسية قُلُوبُهُمْ‏}‏ هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكاً وظلمة ‏{‏وَإِنَّ الظالمين‏}‏ أي المنافقين والمشركين وأصله و«إنهم» فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم ‏{‏لَفِي شِقَاقٍ‏}‏ خلاف ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ عن الحق‏.‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ بالله وبدينه وبالآيات ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي القرآن ‏{‏الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ‏}‏ بالقرآن ‏{‏فَتُخْبِتَ‏}‏ فتطمئن ‏{‏لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامَنُواْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ فيتأولون ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ‏{‏وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ شك ‏{‏مِنْهُ‏}‏ من القرآن أو من الصراط المستقيم ‏{‏حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً‏}‏ فجأة ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ‏}‏ يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير‏.‏ أو شديد لا رحمة فيه أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه‏.‏ وعن الضحاك أنه يوم القيامة وأن المراد بالساعة مقدماته‏.‏

‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ فلا منازع له فيه ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي يقضي‏.‏ ثم بين حكمه فيهم بقوله ‏{‏فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى جنات النعيم والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ ثم خص قوماً من الفريق الأول بفضيلة فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏58‏)‏ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏59‏)‏ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ خرجوا من أوطانهم مجاهدين ‏{‏ثُمَّ قُتِلُواْ‏}‏ شامي ‏{‏أَوْ مَاتُواْ‏}‏ حتف أنفهم ‏{‏لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً‏}‏ قيل‏:‏ الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبداً ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ لأنه المخترع للخلق بلا مثال، المتكفل للرزق بلا ملال ‏{‏لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً‏}‏ بفتح الميم مدني والمراد الجنة ‏{‏يَرْضَوْنَهُ‏}‏ لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ‏}‏ بأحوال من قضى نحبه مجاهداً، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ بإمهال من قاتلهم معانداً‏.‏ رُوي أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا نبي الله‏:‏ هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك‏؟‏ فأنزل الله هاتين الآيتين‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف ‏{‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ‏}‏ سمي الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه ‏{‏ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله‏}‏ أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثم ظلم بعد ذلك فحق على الله أن ينصره ‏{‏إِنَّ الله لَعَفُوٌّ‏}‏ يمحو آثار الذنوب ‏{‏غَفُورٌ‏}‏ يستر أنواع العيوب‏.‏ وتقرير الوصفين بسياق الآية أن المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ فحيث لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في الكرة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغي، وعرف مع ذلك بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين، أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده كما قيل «العفو عند القدرة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا، أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون ولا يستر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات‏.‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ‏}‏ عراقي غير أبي بكر ‏{‏مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير‏}‏ أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار وإحاطته بما يجري فيهما وإدراكه قولهم وفعلهم بسبب أن الله الحق الثابت إلاهيته وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ مطراً ‏{‏فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً‏}‏ بالنبات بعدما كانت مسودة يابسة وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمان بعد زمان كما تقول «أنعم عليّ فلان فأروح وأغدوا شاكراً له» ولو قلت «فرحت وغدوت» لم يقع ذلك الموقع‏.‏ وإنما رفع ‏{‏فتصبح‏}‏ ولم ينصب جواباً للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض، وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك «ألم تراني أنعمت عليك فتشكر»، إن نصبته نفيت شكره وشكوت من تفريطه فيه، وإن رفعته أثبت شكره ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ‏}‏ واصل عمله أو فضله إلى كل شيء ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ بمصالح الخلق ومنافعهم أو اللطيف المختص بدقيق التدبير والخبير المحيط بكل قليل وكثير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 67‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ مُلكاً وملكاً ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني‏}‏ المستغني بكمال قدرته بعد فناء ما في السماوات وما في الأَرض ‏{‏الحميد‏}‏ المحمود بنعمته قبل ثناء من في السماوات ومن في الأرض ‏{‏الم * تَرَى أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض‏}‏ من البهائم مذللة للركوب في البر ‏{‏والفلك تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ‏}‏ أي ومن المراكب جارية في البحر، ونصب ‏{‏الفلك‏}‏ عطفاً على «ما» و‏{‏تجري‏}‏ حال لها أي وسخر لكم الفلك في حال جريها ‏{‏وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض‏}‏ أي يحفظها من أن تقع ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ بأمره أو بمشيئته ‏{‏إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ‏}‏ بتسخير ما في الأرض ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض، عدد آلائه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقرائتها ألبتة

‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ‏}‏ في أرحام أمهاتكم ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ لإيصال جزائكم ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏ لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الإفناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود ‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ أهل دين ‏{‏جَعَلْنَا مَنسَكًا‏}‏ مر بيانه وهو رد لقول من يقول إن الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كل أمة ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ عاملون به ‏{‏فَلاَ ينازعنك‏}‏ فلا يجادلنك والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك ‏{‏فِى الأمر‏}‏ أمر الذبائح أو الدين‏.‏ نزلت حين قال المشركون للمسلمين‏:‏ ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعني الميتة ‏{‏وادع‏}‏ الناس ‏{‏إلى رَبّكَ‏}‏ إلى عبادة ربك ‏{‏إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ طريق قويم‏.‏ ولم يذكر الواو في ‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ بخلاف ما تقدم لأن تلك وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وهذه وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 72‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن جادلوك‏}‏ مراء وتعنتاً كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال ‏{‏فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول، والمعنى أن الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين وتأديب يجاب به كل متعنت ‏{‏الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض‏}‏ أي كيف يخفى عليه ما تعملون ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ الموجود فيهما ‏{‏فِى كتاب‏}‏ في اللوح المحفوظ ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ أي علمه بجميع ذلك عليه يسير‏.‏ ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحق لها بقوله ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ‏}‏ ‏{‏ينْزل‏}‏ مكي وبصري ‏{‏سلطانا‏}‏ حجة وبرهاناً ‏{‏وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلي ‏{‏وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ‏}‏ وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر‏}‏ الإنكار بالعبوس والكراهة والمنكر مصدر ‏{‏يكادون يَسْطُونَ‏}‏ يبطشون والسطو الوثب والبطش ‏{‏بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏{‏قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم‏}‏ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم ‏{‏النار‏}‏ خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً قال‏:‏ ما هو‏؟‏ فقيل‏:‏ النار أي هو النار ‏{‏وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ استئناف كلام ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ النار‏.‏

ولما كانت دعواهم بأن لله تعالى شريكاً جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ‏}‏ بين ‏{‏مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ‏}‏ لضرب هذا المثل ‏{‏أَنَّ الذين تَدْعُونَ‏}‏ ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ سهل ويعقوب ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ آلهة باطلة ‏{‏لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً‏}‏ «لن» تأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل كأنه قال‏:‏ محال أن يخلقوا‏.‏ وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره ‏{‏وَلَوِ اجتمعوا لَهُ‏}‏ لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل‏:‏ مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلالهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله لو اجتمعوا لذلك ‏{‏وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً‏}‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ ثاني مفعولي ‏{‏يَسْلُبْهُمُ‏}‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه ‏{‏ضَعُفَ الطالب‏}‏ أي الصنم بطلب ما سلب منه ‏{‏والمطلوب‏}‏ الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب ‏{‏مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكاً له ‏{‏إِنَّ الله لْقَوِيٌ عَزِيزٌ‏}‏ أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به، أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَصْطَفِى‏}‏ يختار ‏{‏مِنَ الملائكة رُسُلاً‏}‏ كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم ‏{‏وَمِنَ الناس‏}‏ رسلاً كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم السلام‏.‏ وهذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين ملك وبشر‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت حين قالوا ‏{‏أأنزل عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لقولهم ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بمن يختاره لرسالته، أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ما مضى ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ ما لم يأت أو ما عملوه وما سيعملوه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ أي إليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات لا يسئل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله ‏{‏ترجع‏}‏ شامي وحمزة وعلي‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا‏}‏ في صلاتكم، وكان أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ‏{‏وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ‏}‏ واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ قيل‏:‏ لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما، ثم عم بالحث على سائر الخيرات‏.‏ وقيل‏:‏ أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي كي تفوزوا أو افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وجاهدوا‏}‏ أمر بالغزو أو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر أو هو كلمة حق عند أمير جائر ‏{‏فِى الله‏}‏ أي في ذات الله ومن أجله ‏{‏حَقَّ جهاده‏}‏ وهو أن لا يخاف في الله لومة لائم‏.‏ يقال‏:‏ هوحق عالم وجد عالم أن عالم حقاً وجداً ومنه ‏{‏حق جهاده‏}‏ وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه لكن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه‏.‏ ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله

ويوم شهدناه سليماً وعامراً *** ‏{‏هُوَ اجتباكم‏}‏ اختاركم لدينه ونصرته ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ضيق بل رخص لكم في جميع ما كلفكم من الطهارة والصلاة والصوم والحج بالتيمم وبالإيماء وبالقصر والإفطار لعذر السفر والمرض وعدم الزاد والراحلة‏.‏

‏{‏مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم‏}‏ أي اتبعوا ملة أبيكم، أو نصب على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم‏.‏ وسماه أباً وإن لم يكن أباً للأمة كلها، لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أباً لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه السلام «إنما أنا لكم مثل الوالد» ‏{‏هُوَ سماكم المسلمين‏}‏ أي الله بدليل قراءة أبيّ‏:‏ ‏{‏الله سماكم المسلمين‏}‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ في الكتب المتقدمة ‏{‏وَفِى هذا‏}‏ أي في القرآن أي فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم ‏{‏لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ أنه قد بلغكم رسالة ربكم ‏{‏وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ بواجباتها ‏{‏وءاتوا الزكاة‏}‏ بشرائطها ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ وثقوا بالله وتوكلوا عليه لا بالصلاة والزكاة ‏{‏هُوَ مولاكم‏}‏ أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم ‏{‏فَنِعْمَ المولى‏}‏ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم ‏{‏وَنِعْمَ النصير‏}‏ أي الناصر هو حيث أعانكم على طاعتكم وقد أفلح من هو مولاه وناصره والله الموفق للصواب‏.‏

سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وثمان عشرة آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ «قد» نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه‏.‏ والفلاح الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا ونجوا مما هربوا، والإيمان في اللغة التصديق، والمؤمن المصدق لغة‏.‏ وفي الشرع كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه فهو مؤمن‏.‏ قال عليه السلام ‏"‏ خلق الله الجنة فقال لها‏:‏ تكلمي‏.‏ فقالت‏:‏ قد أفلح المؤمنون ثلاثاً أنا حرام على كل بخيل مراء ‏"‏ لأنه بالرياء أبطل العبادات البدنية وليس له عبادة مالية ‏{‏الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ خائفون بالقلب ساكنون بالجوارح‏.‏ وقيل‏:‏ الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها والإعراض عما سواها وأن لا يجاوز بصره مصلاه وأن لا يلتفت ولا يعبث ولا يسدل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلب الحصى ونحو ذلك‏.‏ وعن أبي الدرداء‏:‏ هو إخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام‏.‏ وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلى له لانتفاع المصلي بها وحده وهي عدته وذخيرته، وأما المصلى له فغني عنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ‏}‏ اللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى كالكذب والشتم والهزل يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل‏.‏ ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف‏.‏

‏{‏والذين هُمْ للزكواة فاعلون‏}‏ مؤدون ولفظ ‏{‏فاعلون‏}‏ يدل على المداومة بخلاف «مؤدون»‏.‏ وقيل‏:‏ الزكاة اسم مشترك يطلق على العين وهو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير، وعلى المعنى وهو فعل المزكي الذي هو التزكية وهو المراد هنا، فجعل المزكين فاعلين له لأن لفظ الفعل يعم جميع الأفعال كالضرب والقتل ونحوهما‏.‏ تقول للضارب والقاتل والمزكي فعل الضرب والقتل والتزكية، ويجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، ودخل اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل في العمل فإنك تقول «هذا ضارب لزيد» ولا تقول «ضرب لزيد» ‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون‏}‏ الفرج يشمل سوءة الرجل والمرأة ‏{‏إِلاَّ على أزواجهم‏}‏ في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك «كان زياد على البصرة» أي والياً عليها‏.‏ والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم، أو تعلق «على» بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل‏:‏ يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إلا من أزواجهم أي زوجاتهم ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ أي إمائهم ولم يقل «من» لأن المملوك جرى مجرى غير العقلاء ولهذا يباع كما تباع البهائم ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ أي لا لوم عليهم إن لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وإمائهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 12‏]‏

‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك‏}‏ طلب قضاء شهوة من غير هذين ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون‏}‏ الكاملون في العدوان وفيه دليل تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة ‏{‏والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ‏}‏ ‏{‏لأمانتهم‏}‏ مكي وسهل‏.‏ سمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً ومنه قوله تعالى ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ وإنما تؤدى العيون لا المعاني والمراد به العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله عز وجل ومن جهة الخلق ‏{‏راعون‏}‏ حافظون والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم‏.‏

‏{‏والذين هُمْ على صلواتهم‏}‏ ‏{‏صَلاَتِهِمْ‏}‏ كوفي غير أبي بكر ‏{‏يُحَافِظُونَ‏}‏ يداومون في أوقاتها‏.‏ وإعادة ذكر الصلاة لأنها أهم، ولأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها، أو لأنها وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أية صلاة كانت، وجمعت آخراً ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل ‏{‏أولئك‏}‏ الجامعون لهذه الأوصاف ‏{‏هُمُ الوارثون‏}‏ الأحقاء بأن يسموا ورّاثاً دون من عداهم‏.‏ ثم ترجم الوارثون بقوله ‏{‏الذين يَرِثُونَ‏}‏ من الكفار في الحديث ‏"‏ ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل الجنة ورث أهل النار منزله، وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ‏"‏ ‏{‏الفردوس‏}‏ هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هو أعلى الجنان ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ أنث الفردوس بتأويل الجنة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ أي آدم ‏{‏مِن سلالة‏}‏ «من» للابتداء والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سمى التراب الذي خلق آدم منه سلالة لأنه سل من كل تربة ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏ «من» للبيان كقوله ‏{‏مِنَ الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ جعلناه‏}‏ أي نسله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لأن آدم عليه السلام لم يصر نطفة وهو كقوله ‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 8‏]‏ وقيل‏:‏ الإنسان بنو آدم والسلالة النطفة والعرب تسمي النطف سلالة أي ولقد خلقنا الإنسان من سلالة يعني من نطفة مسلولة من طين أي من مخلوق من طين وهو آدم عليه السلام ‏{‏نُّطْفَةٍ‏}‏ ماء قليلاً ‏{‏فِى قَرَارٍ‏}‏ مستقر يعني الرحم ‏{‏مَّكِينٍ‏}‏ حصين ‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة‏}‏ أي صيرناها بدلالة تعديه إلى مفعولين والخلق يتعدى إلى مفعول واحد ‏{‏عَلَقَةٍ‏}‏ قطعة دم والمعنى أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ‏{‏فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً‏}‏ لحماً قدر ما يمضغ ‏{‏فَخَلَقْنَا المضغة عظاما‏}‏ فصيرناها عظاماً ‏{‏فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً‏}‏ فأنبتنا عليها اللحم فصار لها كاللباس ‏{‏عظماً‏}‏ ‏{‏العظم‏}‏ شامي وأبو بكر ‏{‏عظماً‏}‏ ‏{‏العظام‏}‏ زيد عن يعقوب ‏{‏عظاما‏}‏ ‏{‏العظم‏}‏ عن أبي زيد، وضع الواحد موضع الجمع لعدم اللبس إذ الإنسان ذو عظام كثيرة ‏{‏ثُمَّ أنشأناه‏}‏ الضمير يعود إلى الإنسان أو إلى المذكور ‏{‏خَلْقاً ءاخَرَ‏}‏ أي خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً وناطقاً وسميعاً وبصيراً وكان بضد هذه الصفات، ولهذا قلنا إذا غصب بيضة فأفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ لأن خلق آخر سوى البيضة ‏{‏فَتَبَارَكَ الله‏}‏ فتعالى أمره في قدرته وعلمه ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ بدل أو خبر مبتدأ محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض من «من» ‏{‏الخالقين‏}‏ المقدرين أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي عليه السلام فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اكتب هكذا نزلت ‏"‏ فقال عبد الله‏:‏ إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة ثم أسلم يوم الفتح‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية‏.‏ وقيل‏:‏ القائل عمر أو معاذ رضي الله عنهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك‏}‏ بعد ما ذكرنا من أمركم ‏{‏لَمَيّتُونَ‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ‏}‏ تحيون للجزاء ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ‏}‏ جمع طريقة وهي السماوات لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم ‏{‏وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين‏}‏ أراد بالخلق السماوات كأنه قال خلقناها فوقكم وما كنا غافلين عن حفظها، أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم عليهم الأرزاق والبركات منها وما كان غافلاً عنهم وعما يصلحهم ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً‏}‏ مطراً ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض‏}‏ كقوله ‏{‏فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏ وقيل‏:‏ جعلناه ثابتاً في الأرض فماء الأرض كله من السماء‏.‏ ثم استأدى شكرهم بقوله ‏{‏وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون‏}‏ أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه فقيدوا هذه النعمة بالشكر ‏{‏فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ‏}‏ بالماء ‏{‏جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب لَّكُمْ فِيهَا‏}‏ في الجنات ‏{‏فواكه كَثِيرَةٌ‏}‏ سوى النخيل والأعناب ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي من الجنات أي من ثمارها، ويجوز أن هذا من قولهم «فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يغتلها» أي أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه كأنه قال‏:‏ وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترزقون وتتعيشون‏.‏

‏{‏وَشَجَرَةً‏}‏ عطف على ‏{‏جنات‏}‏ وهي شجرة الزيتون ‏{‏تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء‏}‏ ‏{‏طُورِ سَيْنَاء‏}‏ و‏{‏طور سينين‏}‏ لا يخلو إما أن يضاف الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامريء القيس وهو جبل فلسطين‏.‏ وسيناء غير منصرف بكل حال مكسور السين كقراءة الحجازي وأبي عمرو للتعريف والعجمة، أو مفتوحها كقراءة غيرهم لأن الألف للتأنيث كصحراء ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الباء للحال أي تنبت ومعها الدهن ‏{‏تُنبت‏}‏ مكي وأبو عمرو‏.‏ إما لأن أنبت بمعنى نبت كقوله «حتى إذا أنبت البقل»، أو لأن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن ‏{‏وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ‏}‏ أي إدام لهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ جعل الله تعالى في هذه إداماً ودهناً، فالإدام الزيتون والدهن الزيت‏.‏ وقيل‏:‏ هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان‏.‏ وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام‏}‏ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ‏{‏لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ‏}‏ وبفتح النون‏:‏ شامي ونافع وأبو بكر وسقى وأسقى لغتان ‏{‏مّمَّا فِى بُطُونِهَا‏}‏ أي نخرج لكم من بطونها لبناً سائغاً ‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ‏}‏ سوى الألبان وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي لحومها ‏{‏وَعَلَيْهَا‏}‏ وعلى الأنعام في البر ‏{‏وَعَلَى الفلك‏}‏ في البحر ‏{‏تُحْمَلُونَ‏}‏ في أسفاركم، وهذا يشير إلى أن المراد بالأنعام الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة فلذا قرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفائن البر قال ذوا الرمة

سفينة بر تحت خدي زمامها *** يريد ناقته‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله‏}‏ وحِّدوه ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله‏}‏ معبود ‏{‏غَيْرُهُ‏}‏ بالرفع على المحل‏:‏ وبالجر على اللفظ، والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أفلا تخافون عقوبة الله الذي هو ربكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالَ الملؤا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ‏}‏ أي أشرافهم لعوامهم ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ يأكل ويشرب ‏{‏يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي يطلب الفضل عليكم ويترأس ‏{‏وَلَوْ شَاء الله‏}‏ إرسال رسول ‏{‏لأَنزَلَ ملائكة‏}‏ لأرسل ملائكة ‏{‏مَّا سَمِعْنَا بهذا‏}‏ أي بإرسال بشر رسولاً أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب آلهتنا والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر ‏{‏في ءَابائنا الأوَّلين * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ جنون ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ‏}‏ فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه ‏{‏قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ فلما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم، والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي إذ في نصرته إهلاكهم، أو ‏{‏انصرني‏}‏ بدل ‏{‏ما كذبون‏}‏ كقولك «هذا بذاك» أي بدل ذاك والمعنى أبدلني من غنم تكذيبهم سلوة النصرة عليهم ‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ‏}‏ أي أجبنا دعاءه فأوحينا إليه ‏{‏أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك، أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفاظاً يكلئونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ومنه قولهم «عليه من الله عين كالئة»‏.‏ ‏{‏وَوَحْيِنَا‏}‏ أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها‏.‏ رُوي أنه أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ أي عذابنا بأمرنا ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏ أي فار الماء من تنور الخبز أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار‏.‏ روي أنه قيل لنوح‏:‏ إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب وكان تنور آدم فصار إلى نوح وكان من حجارة‏.‏ واختلف في مكانه فقيل‏:‏ في مسجد الكوفة‏.‏ وقيل‏:‏ بالشام‏.‏ وقيل‏:‏ بالهند‏.‏ ‏{‏فاسلك فِيهَا‏}‏ فأدخل في السفينة ‏{‏مِن كُلّ زَوْجَيْنِ‏}‏ من كلّ أمتي زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك ‏{‏اثنين‏}‏ واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرمكة‏.‏ روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض من كل حفص والمفضل أي من كل أمة زوجين اثنين و‏{‏اثنين‏}‏ تأكيد وزيادة بيان ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ ونساءك وأولادك ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول‏}‏ من الله بإهلاكه وهو ابنه وإحدى زوجتيه فجيء ب «على» مع سبق الضار كما جيء باللام مع سبق النافع في قوله ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏]‏ ونحوها ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت‏}‏ ‏{‏مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ ولا تسألني نجاة الذين كفروا فإني أغرقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك‏}‏ فإذا تمكنتم عليها راكبين ‏{‏فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين‏}‏ أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم‏.‏ ولم يقل فقولوا وإن كان ‏{‏فإذا استويت أنت ومن معك‏}‏ في معنى إذا استويتم لأنه نبيهم وإمامهم فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة ‏{‏وَقُلْ‏}‏ حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها ‏{‏رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً‏}‏ أي إنزالاً أو موضع إنزال ‏{‏منزلاً‏}‏ أبو بكر أي مكاناً ‏{‏مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين‏}‏ والبركة في السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ فيم فعل بنوح وقومه ‏{‏لأَيَاتٍ‏}‏ لعبراً ومواعظ ‏{‏وَإِنْ‏}‏ هي المخففة من المثقلة واللام هي الفارقة بين النافية وبينها والمعنى وإن الشأن والقصة ‏{‏كُنَّا لَمُبْتَلِينَ‏}‏ مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر كقوله تعالى ‏{‏وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا‏}‏ خلقنا ‏{‏مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ من بعد نوح ‏{‏قرناً آخرين‏}‏ هم عاد قوم هود ويشهد له قول هود ‏{‏واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏ ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في «الأعراف» و«هود» و«الشعراء» ‏{‏فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ‏}‏ الإرسال يعدى ب «إلى» ولم يعد ب «في» هنا وفي قوله ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94‏]‏ ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال كقول رؤبة‏:‏

أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام *** ‏{‏رَسُولاً‏}‏ هو هود ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من قومهم ‏{‏أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ «أن» مفسرة ل ‏{‏أرسلنا‏}‏ أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله‏.‏

‏{‏وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ‏}‏ ذكر مقالة قوم هود في جوابه في «الأعراف» وهود بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال‏:‏ فما قال قومه‏؟‏ فقيل له‏:‏ قالوا كيت وكيت، وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول، ومعناه أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل وليس بجواب للنبي صلى الله عليه وسلم متصل بكلامه ولم يكن بالفاء، وجيء بالفاء في قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ صفة للملأ أو لقومه ‏{‏وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة‏}‏ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك ‏{‏وأترفناهم‏}‏ ونعمناهم ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ بكثرة الأموال والأولاد ‏{‏مَا هذا‏}‏ أي النبي ‏{‏إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ‏}‏ أي منه فحذف لدلالة ما قبله عليه أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم ‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ‏}‏ فيما يأمركم به وينهاكم عنه ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً‏}‏ واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم ‏{‏لخاسرون‏}‏ بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 40‏]‏

‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ‏}‏ بالكسر‏:‏ نافع وحمزة وعلي وحفص، وغيرهم بالضم ‏{‏وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ‏}‏ مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثنى ‏{‏أنكم‏}‏ للتأكيد، وحسن ذلك للفصل بين الأول والثاني بالظرف و‏{‏مخرجون‏}‏ خبر عن الأول والتقدير‏:‏ أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً

‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ‏}‏ وبكسر التاء‏:‏ يزيد، ورُوي عنه بالكسر والتنويم فيهما، والكسائي يقف بالهاء وغيره بالتاء وهو اسم للفعل واقع موقع بعد فاعلها مضمر أي بعد التصديق أو الوقوع ‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب، أو فاعلها ‏{‏ما توعدون‏}‏ واللام زائدة أي بعد ما توعدون من البعث ‏{‏إِنْ هِىَ‏}‏ هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة ‏{‏إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ ثم وضع ‏{‏هي‏}‏ موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها، والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا، وهذا لأن «إن» النافية دخلت على «هي» التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت «لا» التي لنفي الجنس ‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ أي يموت بعض ويولد بعض، ينقرض قرن فيأتي قرن آخر، أو فيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وهو قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ بعد الموت ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً‏}‏ أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه وفيما يعدنا من البعث ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ بمصدقين‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ فأجاب الله دعاء الرسول بقوله ‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ‏}‏ ‏{‏قليل‏}‏ صفة للزمان كقديم وحديث في قولك«ما رأيته قديماً ولا حديثاً» وفي معناه عن قريب و«ما» زائدة أو بمعنى شيء أو زمن وقليل بدل منها وجواب القسم المحذوف ‏{‏لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ إذا عاينوا ما يحل بهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ أي صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم ‏{‏بالحق‏}‏ بالعدل من الله يقال فلان يقضي بالحق أي بالعدل ‏{‏فجعلناهم غُثَاء‏}‏ شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان ‏{‏فَبُعْداً‏}‏ فهلاكاً يقال بعد بعداً أو بعداً أي هلك وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها ‏{‏لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ‏}‏ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ «من» صلة أي ما تسبق أمة ‏{‏أَجَلُهَا‏}‏ المكتوب لها والوقت الذي حدد لهلاكها وكتب ‏{‏وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ‏}‏ لا يتأخرون عنه‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ فعلى والألف للتأنيث كسكرى لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف ‏{‏تترى‏}‏ بالتنوين‏:‏ مكي وأبو عمرو ويزيد على أن الألف للإلحاق كأرطى، وهو نصب على الحال في القراءتين أي متتابعين واحداً بعد واحد، وتاؤها فيهما بدل من الواو والأصل و«ترى» من الوتر وهو الفرد فقلبت الواوتاء كتراث ‏{‏كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ‏}‏ الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما ‏{‏فَأَتْبَعْنَا‏}‏ الأمم والقرون ‏{‏بَعْضُهُم بَعْضاً‏}‏ في الهلاك ‏{‏وجعلناهم أَحَادِيثَ‏}‏ أخباراً يسمع بها ويتعجب منها، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتكون جمعاً للأحدوثة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا ‏{‏فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون‏}‏ بدل من ‏{‏أخاه‏}‏ ‏{‏بأياتنا‏}‏ التسع ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ وحجة ظاهرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 51‏]‏

‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِه فاستكبروا‏}‏ امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعاً وتكبراً ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً عالين‏}‏ متكبرين مترفعين ‏{‏فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏ البشر يكون واحداً وجمعاً ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ‏{‏وَقَوْمُهُمَا‏}‏ أي بنو إسرائيل ‏{‏لَنَا عابدون‏}‏ خاضعون مطيعون وكل من دان لملك فهو عابد له عند العرب ‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين‏}‏ بالغرق‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى‏}‏ أي قوم موسى ‏{‏الكتاب‏}‏ التوراة ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ يعملون بشرائعها ومواعظها ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً‏}‏ تدل على قدرتنا على ما نشاء لأنه خلق من غير نطفة واحدة، لأن الأعجوبة فيهما واحدة، أو المراد وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ‏{‏وءاويناهما‏}‏ جعلنا مأواهما أي منزلهما ‏{‏إلى رَبْوَةٍ‏}‏ شامي وعاصم‏.‏ ‏{‏رُبوة‏}‏ غيرهما أي أرض مرتفعة وهي بيت المقدس أو دمشق أو الرملة أو مصر ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ‏}‏ مستقر من أرض مستوية منبسطة أو ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها ‏{‏وَمَعِينٍ‏}‏ وماء ظاهر جارٍ على وجه الأرض وهو مفعول أي مدرك بالعين بظهوره من عانه إذا أدركه بعينه، أو فعيل لأنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهي المنفعة ‏{‏ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏ هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه، أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقام الكل في زمانه وكان يأكل من الغنائم، أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره وكان يأكل من غزل أمه وهو أطيب الطيبات، والمراد بالطيبات ما حل والأمر للتكليف أو ما يستطاب ويستلذ والأمر للترفيه والإباحة ‏{‏واعملوا صالحا‏}‏ موافقاً للشريعة ‏{‏إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ فأجازيكم على أعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 56‏]‏

‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ هذه‏}‏ كوفي على الاستئناف‏.‏ ‏{‏وأن‏}‏ حجازي وبصري بمعنى ولأن أي فاتقون لأن هذه، أو معطوف على ما قبله أي بما تعملون عليم وبأن هذه‏.‏ أو تقديره واعلموا أن هذه ‏{‏أُمَّتُكُمْ‏}‏ أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها

‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ملة واحدة وهي شريعة الاسلام‏.‏ وانتصاب ‏{‏أمة‏}‏ على الحال والمعنى وإن الدين دين واحد وهو الاسلام ومثله ‏{‏إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ‏}‏ وحدي ‏{‏فاتقون‏}‏ فخافوا عقابي في مخالفتكم أمري ‏{‏فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ تقطع بمعنى قطع أي قطعوا أمر دينهم ‏{‏زُبُراً‏}‏ جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً‏.‏ وقيل‏:‏ تفرقوا في دينهم فرقاً كلٍ فرقة تنتحل كتاباً‏.‏ وعن الحسن‏:‏ قطعوا كتاب الله قطعاً وحرفوه‏.‏ وقرئ ‏{‏زَبرا‏}‏ جمع زبرة أي قطعاً ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ‏}‏ كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم ‏{‏بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ من الكتاب والدين أو من الهوى والرأي ‏{‏فَرِحُونَ‏}‏ مسرورون معتقدون أنهم على الحق ‏{‏فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ‏}‏ جهالتهم وغفلتهم ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ أي إلى أن يقتلون أو يموتوا‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ «ما» بمعنى الذي وخبر «أن»

‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات‏}‏ والعائد من خبر «أن» إلى اسمها محذوف أي نسارع لهم به، والمعنى أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم‏.‏ وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون إن الله لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين، وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح ‏{‏بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ بل استدراك لقوله أيحسبون أي أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك أنه استدراج أو مسارعة في الخير‏.‏ ثم بين ذكر أوليائه فقال

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 64‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ‏}‏ أي خائفون ‏{‏والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي بكتب الله كلها لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب ‏{‏والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ‏}‏ كمشركي العرب ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏ أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات‏.‏ وقريء ‏{‏يأتون ما أتوا‏}‏ بالقصر أي يفعلون ما فعلوا ‏{‏وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ خائفة أي لا تقبل منهم لتقصيرهم ‏{‏أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون‏}‏ الجمهور على أن التقدير لأنهم وخبر ‏{‏إن الذين‏}‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات‏}‏ يرغبون في الطاعات فيبادرونها ‏{‏وَهُمْ لَهَا سابقون‏}‏ أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس‏.‏

‏{‏وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ أي طاقتها يعني أن الذي وصف به الصالحون غير خارج عن حد الوسع والطاقة، وكذلك كل ما كلفه عباده وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق ‏{‏وَلَدَيْنَا كِتَابٌ‏}‏ أي اللوح أو صحيفة الأعمال ‏{‏يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ لا يقرؤون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان، ولا يظلم منهم أحد بزيادة عقاب أو نقصان ثواب أو بتكليف ما لا وسع له به ‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا‏}‏ بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين ‏{‏وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك‏}‏ أي ولهم أعمال خبيثة متجاوزة متخطية لذلك أي لما وصف به المؤمنون ‏{‏هُمْ لَهَا عاملون‏}‏ وعليها مقيمون لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب ‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ‏}‏ متنعميهم ‏{‏بالعذاب‏}‏ عذاب الدنيا وهو القحط سبع سنين حين دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، أو قتلهم يوم بدر‏.‏ و«حتى» هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية ‏{‏إذا هم يجئرون‏}‏ يصرخون استغاثة والجؤار الصراخ باستغاثة فيقال لهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 70‏]‏

‏{‏لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏ قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَجْئَرُواْ اليوم‏}‏ فإن الجؤار غير نافع لكم ‏{‏إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ أي من جهتنا لا يلحقكم نصر أو معونة‏.‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ ءايَتِى تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي القرآن ‏{‏فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ‏}‏ ترجعون القهقرى والنكوص أن يرجع القهقرى وهو أقبح مشية لأنه لا يرى ما وراءه

‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ‏}‏ متكبرين على المسلمين حال من ‏{‏تنكصون‏}‏ ‏{‏بِهِ‏}‏ بالبيت أو بالحرم لأنهم يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم، والذي سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت أو ب ‏{‏آياتي‏}‏ لأنها في معنى كتابي، ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكباراً‏.‏ ضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدي تعديته أو يتعلق الباء بقوله ‏{‏سامرا‏}‏ تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته شعراً وسحراً‏.‏ والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرئ ‏{‏سمّارا‏}‏‏.‏ أو بقوله ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ وهو من الهجر الهذيان ‏{‏تهجرون‏}‏‏:‏ نافع من أهجر في منطقه إذا فحش ‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول‏}‏ أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به ‏{‏أم جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين‏}‏ بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروه واستبدعوه ‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ‏}‏ محمداً بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق أي عرفوه بهذه الصفات ‏{‏فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ بغياً وحسداً ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ‏{‏بَلْ جَاءهُمْ بالحق‏}‏ الأبلج والصراط المستقيم وبما خالف شهواتهم وأهواءهم وهو التوحيد والإسلام ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً فلذلك نسبوه إلى الجنون ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون‏}‏ وفيه دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه كأبي طالب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 75‏]‏

‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوِ اتبع الحق‏}‏ أي الله ‏{‏أَهْوَاءضهُمْ‏}‏ فيما يعتقدون من الآلهة ‏{‏لَفَسَدَتِ السماوات والأرض‏}‏ كما قال ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ خص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع ‏{‏بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ‏}‏ بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو شرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ‏{‏وَيَقُولونَ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 168‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ بسوء اختيارهم ‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ‏}‏ حجازي وبصري وعاصم، ‏{‏خرجا فخرج‏}‏ شامي، ‏{‏خراجا فخراج‏}‏ علي وحمزة، وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك وإلى كل عامل من أجرته وجعله، والخرج أخص من الخراج تقول «خراج القرية وخرج الكوفة» فزيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذا حسنت لقراءة الأولى يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من الخالق خير ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ أفضل المعطين ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو دين الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون‏}‏ لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم ‏{‏وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ‏}‏ لما أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى ‏"‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين‏؟‏ فقال‏:‏ «بلى» فقال‏:‏ قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية‏.‏ ‏"‏ والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو القحط الذي أصابهم برحمته لهم ووجدوا الخصب ‏{‏لَّلَجُّواْ‏}‏ أي لتمادوا ‏{‏فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ يترددون يعني لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولذهب عنهم هذا التملق بين يديه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 78‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ استشهد على ذلك بأنا أخذناهم أولاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت بعد ذلك منهم استكانة أي خضوع ولا تضرع‏.‏ وقوله ‏{‏وما يتضرعون‏}‏ عبارة عن دوام حالهم أي وهم على ذلك بعد ولذا لم يقل وما تضرعوا‏.‏ ووزن استكان استفعل من الكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل «استحال» إذا انتقل من حال إلى حال‏.‏

‏{‏حتى إِذَا فَتَحْنَا‏}‏ ‏{‏فتّحنا‏}‏ يزيد ‏{‏عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ أي باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل ‏{‏إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏ متحيرون آيسون من كل خير‏.‏ وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد ليستعطفك أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة‏}‏ خصهما بالذكر لأنها يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ أي تشكرون شكراً قليلاً‏.‏ و«ما» مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً، والمعنى إنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم ووضعتموها غير مواضعها فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم في آيات الله وأفعاله، ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشكروا له شيئا

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 85‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ‏}‏ خلقكم وبثكم بالتناسل ‏{‏فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم ‏{‏وَهُوَ الذى يُحىِ وَيُمِيتُ‏}‏ أي يحيى النسم بالإنشاء ويميتها بالإفناء ‏{‏وَلَهُ اختلاف اليل والنهار‏}‏ أي مجيء أحدهما عقيب الآخر واختلافهما في الظلمة والنور أو في الزيادة والنقصان وهو مختص به ولا يقدر على تصريفهما غيره ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ فتعرفوا قدرتنا على البعث أو فتستدلوا بالصنع على الصانع فتؤمنوا ‏{‏بَلْ قَالُواْ‏}‏ أي أهل مكة ‏{‏مِثْلَ مَا قَالَ الأولون‏}‏ أي الكفار قبلهم‏.‏ ثم بين ما قالوا بقوله ‏{‏قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ ‏{‏متنا‏}‏ نافع وحمزة وعلي وحفص

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا‏}‏ أي البعث ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ مجيء محمد ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ جمع أسطار جمع سطر وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطور أوفق‏.‏

ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإقامة الحجة على المشركين بقوله ‏{‏قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ فإنهم ‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ لأنهم مقرون بأنه الخالق فإذا قالوا ‏{‏قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادراً على إعادة الخلق، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية‏.‏ ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ بالتخفيف‏:‏ حمزة وعلي وحفص، وبالتشديد‏:‏ غيرهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 91‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أفلا تخافونه فلا تشركوا به، أو أفلا تتقون في جحودكم قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء‏؟‏ ‏{‏قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ‏}‏ الملكوت الملك والواو والتاء للمبالغة فتنبيء عن عظم الملك ‏{‏وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً ‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ‏}‏ تخدعون عن الحق أو عن توحيده وطاعته، والخادع هو الشيطان والهوى الأول لله بالإجماع إذ السؤال لمن، وكذا الثاني والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك إذا قلت‏:‏ من رب هذا‏؟‏ فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعر

إذا قيل من رب المزالف والقرى *** ورب الجياد الجرد قيل لخالد

أي لمن المزالف‏.‏ ومن قرأ بحذفه فعلى الظاهر لأنك إذا قلت‏:‏ من رب هذا‏؟‏ فجوابه فلان ‏{‏بَلْ أتيناهم بالحق‏}‏ بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في قولهم اتخذ الله ولداً ودعائهم الشريك‏.‏

ثم أكد كذبهم بقوله ‏{‏مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ‏}‏ لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل من جنسه ‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله‏}‏ وليس معه شريك في الألوهية ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ‏}‏ لانفرد كل واحد من الآلهة بالذي خلقه فاستبدبه ولتمييز ملك كل واحد منهم عن الآخر ‏{‏وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، وحين لم تروا أثراً لتمايز المماليك وللتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء، ولا يقال ‏{‏إذاً‏}‏ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب وههنا وقع ‏{‏لذهب‏}‏ جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط محذوف وتقديره‏:‏ ولو كان معه آلهة لدلالة ‏{‏وما كان معه من إله‏}‏ عليه وهو جواب لمن حآجه من المشركين ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من الأنداد والأولاد

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 95‏]‏

‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏عالم‏}‏ بالجر صفة لله، وبالرفع مدني وكوفي غير حفص خبر مبتدأ محذوف ‏{‏الغيب والشهادة‏}‏ السر والعلانية ‏{‏فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ من الأصنام وغيرها

‏{‏قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى مَا يُوعَدُونَ‏}‏ «ما» والنون مؤكدان أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة ‏{‏رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين‏}‏ أي فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم، عن الحسن رضي الله عنه‏:‏ أخبره أن له في أمته نقمة ولم يخبره متى وقتها، فأمر أن يدعو هذا الدعاء‏.‏ ويجوز أن يسأل النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه، واستغفاره عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلسه سبعين مرة لذلك، والفاء في ‏{‏فلا‏}‏ لجواب الشرط و‏{‏رب‏}‏ اعتراض بينهما للتأكيد ‏{‏وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون‏}‏ كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم‏:‏ إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم فما وجه هذا الإنكار‏؟‏‏.‏